اليوم بعربة المترو لمحت تلك الفتاة، كانت تضع ملصقا على صدرها لم أتبينه. تعطيني ظهرها وبيني وبينها زحام. عندما التفتت رأيته، صورته المنتشرة ولكنها مطبوعة بالأبيض والأسود واسمه المكتوب بأعلاها، يزين جبينها شريطة سوداء. الفتاة أيضا كانت ترتدي السواد. نظرت إلى علاء قليلا، تأملت ابتسامته للمرة التي لا أدري عددها. ابتسامة علاء مختلفة، علاء ذاته مختلف، نظرة علاء تختلف عن كل نظرات الشهداء السابقين والحاليين، لا تواجه المصوّر .. تواجه شيئا أبعد من ذلك، في سكينة تامة. نظرته تؤسرني دون غيرها. حتى نظرة الشيخ عماد وابتسامته التي تشعرني براحة واطمئنان ولكنها لا تفعل بي مثل الذي يفعله ذلك الشاب الوسيم. نظرة علاء بها شيء يخصني وحدي، الوحيد الذي يشعرني بيد باردة تعتصر قلبي، وتظل تعتصره إلى أن أفقد القدرة على التنفس، وأحس بألم حقيقي.
حينما طاردتني عيناه اليوم في المترو حاولت اجبار عيني على التماسك، ولكني لم أقو على الإشاحة بوجهي بعيدا. نزلت الفتاة، واقتربت أنا من الباب لأتنفس بعض الهواء، شعرت بنفسي أسقط في فجوة كبيرة، ضممت قبضة يدي وطرقت على زجاج باب العربة طرقات خافتة بطيئة متوالية. كنت أزيل توتري، كنت أحاول إلهاء نفسي، كنت أتخيل لو وجدت صديقتي فور نزولي سأندفع إلى حضنها وأنا أخبرها بما رأيته وأترك لبكائي العنان. كنت أتخيل لو لاحظ أحدهم حزني وسألني على ملابسي الداكنة، فأجيب: "عندي حالة وفاة". كنت أنظر للمارة على رصيف المحطة أمامي قبل أن تُغلق الأبواب في البداية، أثبت نظري عليهم، وأود لو أقول لهم في هدوء: "علاء مات على فكرة".
الحزن هذه المرة لم يكن محاولة يائسة للتعاطف، كان فقدا حقيقيا، أنا من فقدته !
هل كان يجب أن ألقاه في مكان ما قبل أن يرحل ... لو التقيت به كنت سأحبه؟ ... الكل أحب علاء، ولكني أتسائل عن إمكانية أن أحبه بمعنى أن أحبه. هل كان هو حقا؟!! .. هل تآلفت روحي معه قبل نزولنا على الأرض؟ ... لماذا أنت يا علاء دونا عن بقية الرجال الدافئين الذين تركوا حضنا فارغا ورائهم؟ لماذا أنت، وعندما غافلتني بتلك النظرة لأول مرة، شعرت بشيء ثقيل يصدم رأسي، بعد أن تعودت على أخبار الراحلين في النشرة، بعد أن كنت أتحاشي الأماكن التي تُذكر فيها أسماؤهم ..... لماذا أنت، وكلما نظرت إلى صورة جسدك الفارغ منك ظننتك نائم، ساقط في نوبة نوم من شدة التعب، ظننت أنّ ما عليَّ إلا هزّ كتفك بشدة وأنا أنادي عليك بصوت عالِ: "يا علاء .. اصحى يا علاء النهار طلع"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق