الروح معتلة من زمن يا أحمد. وأنا لا أعرف ماذا أصنع. أشعر فقط
برغبة دائمة في النوم!
لو كنت جلست بجانبك يومها بعد أن ضربك الأستاذ، وقبّلت
يديك المتورمتين...
أو لو كنت ذهبت إليك وشكرتك لسؤالك عني بعدما فقدت الوعي
في طابور الصباح..
"معلش يا نهى" .. بعد حادثة مؤسفة أخرى بفناء
المدرسة، مررت بجانبي وأنا في طريقي للبيت، همست الجملة في أذني ومضيت. لم تلتفت
ولم أعرك انتباها كافيا. كنت مشغولة ببكائي ورثاء ذاتي.
لو سألتك ذلك اليوم عن سبب ذهابك للطبيب، ولماذا منعك من
أكل الشيبسي...
لو ابتسمت إليك في كل مرة تتقاطع خطواتي مع خطواتك في
الممرات المؤدية للسلالم والفصول...
لو في آخر يوم لنا بذلك السجن الكبير أخبرتك حقيقة
مشاعري، وأخبرتك عن ذلك الحلم الأزرق، وأنت تجري خلفي، وجهك متألم ويائس وتبحث عني
في كل مكان ولا تراني. وأنا أجري أمامك على بُعد خطوات قليلة. لا أعرف لماذا أهرب
منك ولا أصدقك أنك ستؤذيني..
لو توقفت قليلا، لدقيقة فقط، في تلك المرة عندما رأيتك
صدفة بشارعنا. لو توقفت ومددت يدي إليك. لو أطلت النظر إلى عينيك كما فعلت أنت حتى
ابتعد كل منا في اتجاه معاكس...
هل كان سيتغير شيء ما يا أحمد؟ هل كنت لتبقى؟ وترسل لي
مثلا هدايا صغيرة على عنوان البيت الذي تعرفه جيدا، أو تنتظرني أسفل العمارة عند
خروجي، وتراقبني وأنا أكبر كل يوم، وتراقب جسدي وهو ينضج كل يوم. هل كنت ستخبرني
كما يفعل الجميع "بتبقي عايزة تطلعي تجري" تعليقا على طريقتي وأنا أسير
في الشارع.
لو بقينا على اتصال، كنا سنتبادل أرقام الهاتف عند
اختراع الموبايل، ونضيف بعضنا على الفيس بوك وربما تمبلر أيضا، وتتحول علاقتنا إلى
ساعات طويلة نقضيها في الحديث على الانبوكس، وارسال الابتسامات والقلوب والأحضان
والقبلات الافتراضية.
أكره هذا الجزء من الحديث يا أحمد. أكره كل الاحتمالات
الممكنة عن كيف ستتغير وتختلف ملامحك. كنت ستقفز في قلب أمطار الغاز والاطارات
المشتعلة بمحمد محمود، أم تنسحب إلى فقاعة ذاتية باحثا عن سلامك الخاص، أم انك
رحلت إلى مكان بعيد جدا عن هنا، لا يعرف عنه أحد. وظل داخلك ذلك الولد الدافىء،
قابعا في مكان سري معزول عن كل ذلك العبث.
هل كنت ستهاجم أفكاري وتقتحم أحلامي بتلك القوة لو بقينا
على اتصال!! .. أكثر من عشر سنوات، ومازلت تزورني في الحلم. تأتي فقط لتأخذني في
حضنك، تقبّل رأسي، تشدني من ذراعي وتمنعني من إني أطلع أجري. تخبرني أنك ستظل هنا،
ولن تسمح لي بالرحيل. فأستكين بين ذراعيك مرة أخرى يا أحمد.
بالأمس أخبرت صديقة لي عنك. هى تهتم بالروحانيات كثيرا.
أخبرتها عن أحلامي، وعن ندمي على كل تلك الأشياء التي لم أفعلها حين كنا معا في
نفس المكان. أخبرتها عن ذلك الحلم الأخير منذ عدة أيام. كان مختلفا عن كل ما سبقه،
ملونا ومليئا بالنور، وأنا مَن قمت بالخطوة
الأولى هذه المرة. جذبتك من ذراعك لتستطيع دخول المصعد المزدحم وتقف بجانبي،
ونجحنا في ذلك. بقينا ملتصقين حينما حاول الغرباء اقصاء كل واحد منا في ناحية.
نظرنا إلى بعض وضحكنا في بهجة شديدة، ثم مضينا إلى مكان أكثر رحابة. كنت وقتها
تحاوط كتفيّ بذراعك، ثم بحركة سريعة ودافئة مشيت بيدك على ظهري من أعلى لأسفل. لو
تعرف كم أحب هذه الحركة يا أحمد. أستيقظ وأثر أصابعك ما زال واضحا وقويا، وأشعر أن
أجزاء روحي المعتلة قد تم تفكيكها وإعادة لصقها مرة أخرى.
أخبرتني صديقتي عن احتمالية ما، أن تكون من الأشخاص
الذين أتوا إلى الدنيا بطاقات كونية كبيرة، لا هم لهم سوى الاهتمام بالآخرين ودفع
الأذى عنهم، وأنك بالفعل متواجد حولي، تراني وترعاني جيدا بطريقتك. لا أدري حقا يا
أحمد، ولا أجد لذلك الأمر تفسير. ما يحدث هو فقط يحدث. أحاول التوقف عن التفكير بأنك
في مكان آخر، بعيد أو قريب من هنا، تفكر بي بنفس الطريقة، وأني آتيك في أحلام
شبيهة، وتستيقظ لتشعر بملمس يدي مازال قويا ودافئا على صدرك. أحاول التوقف عن
التفكير حول لماذا أنا ولماذا أنت...
أنا فقط لم تدفعني الحاجة للكتابة إليك والحديث عنك هكذا
قبل الآن. شحنة من المشاعر القوية والمتدفقة تكاد تخترق صدري بعد ذلك الحلم. صوت
داخلي يخبرني أن عليّ البحث عنك وايجادك بسرعة، أن الوقت الباقي ضيق جدا ولا يحتمل
الارجاء والتأخير. هناك على العموم العديد من الأصوات التي تتحدث داخلي ولا أعرف
من أين أتت. أظن أن بعد شهر أو اثنين على الأكثر سيهدأ كل ذلك، وستعود حياتي
لايقاع عادي لا أحلام فيه أو محاولات اتصال، سأستمر في التخبط بأحضان غريبة. ثم
أحلم بك مرة أخرى، وأشعر لوهلة أني وجدت البيت الذي أبحث عنه، ثم أستيقظ. وأجد
نفسي ما زلت نائمة في نفس المكان، على نفس السرير، الذي لا يسع سوى فردا واحدا..
أشعر أحيانا أني مجنونة
يا أحمد، ولكن عليّ تصديق أن وجودك حقيقي بحياتي...
دمت بخير،
مِن نهى، رفيقتك في الأحلام..
جميلة جدًا .. ودافئة
ردحذفتستدعي كل الحنين والذكريات
..
.
هنيئًا لـ أحمد
الذي سيصل حتمًا :)
ويسعد
كلام جميل و رائع
ردحذف