أعتقد إن كل حاجة اتجمعت واتكثفت وحصلت عند النقطة دي: "الآن أصبح الهدف من كدها اليومي هو العمل على إشباع الروح والسعي إليها، ولم يعد محصورا فى نطاق ذهني ضيق أو وظيفة محدودة أو علاقة قاصرة، تعرف الآن بفطرتها متى يتحتم أن تموت الأشياء ومتى ينبغي عليها أن تحيا، وكبف تبعد وكيف تبقي"**
****
خليني أرجع من الأول !!
حكولي اني اتولدت في المدينة يوم جمعة 13 رمضان (أول يوم بالأيام القمرية)، خرجت للحياة ساعة آدان العصر، بمستشفى جنب الحرم النبوي، على ايد دكتور سوداني !
لحظتها كانت أول مشكلة واجهتني بحياتي، عندي مشكلة في التنفس، ودا كان نتيجته اني قعدت 17 يوم بالحضّانة، بعيدة عن البيت، بعيدة عن أمي، عايشة في صندوق إزاز جوا أوضة معقّمة، درجة حرارتها مظبوطة، مفيش صوت حواليا مش في مكانه ... 17 يوم لوحدي فى حالة انعزال وصمت، مارضعتش طبيعي وأول حاجة دخلت معدتي كانت مضاد حيوي. بابا كان الوحيد اللي بيزورني، كان بيزغزغني فى رجلي عشان يتأكد إني لسة معاهم !
حكولي إنه جدتي لأمي كان زعلانة لأني برضه بنت، وأمي تقريبا كانت واخدة على خاطرها، وإنه فيه صديق لأبويا تنبأ لي ساعتها بمستقبل عظيم إني لما أكبر هكون أحسن واحدة فى العيلة دي كلها. الفكرة، ماكنتش موجودة أصلا ف الخطة، اخواتي الاتنين كانوا كفاية، بس اللي حصل انهم اتفأجوا بوجودي !
بابا قال إني هكون العصايا اللي هيتسند عليها بعد ما اخواتي يسيبوا البيت وهو يكبر ويعجز، أنا اللي هفضل معاه، ومش هيشرب كوباية المية إلا من ايدي......... كانوا عايزين يسمّوني هاجر أوخديجة أو زينب، أسماء إخواتي غيّرت رأيهم. شيرين ودينا ما ينفعش ييجي بعدها إلا نُهى، وبنفس الوقت اسم موصول ذكره بالقرآن، دلوقتي بقيت أسمعه أكتر فى الأغاني !
حكولي كمان، إنه بعد كام شهر كنت فى البيت، مفيش حد معايا إلا بابا. بالصدفة فتح باب الأوضة عليّ عشان يكتشف ان التكييف سحب كل دخان عربيات الرش من برا في الشارع، والأوضة كانت عبارة عن ضباب. خرج بيَّ من العمارة كلها، وربنا ستر !
****
كنت طفلة هادية مابتحركش كتير من مكاني على حسب كلامهم، دا كان بس فى البيت. في الشارع أول ما رجلي تلمس الأرض يبدأ الطقس المعتاد، أطلع أجري فى السوق بدون أي داعي وهما يحاولوا يلحقوني قبل ما أتوه. مرة نزلوني ع الأرض وبرضه طلعت أجري بس كنا ساعتها بمستشفي. اتخبطت جنب عيني الشمال فى حرف مراية كبيرة معلقينها بالاستقبال ونزفت. كانوا رايحين أصلا عشان سبب تاني بس اللي حصل إنهم جريوا بيَّ زي المجانين يلحقوا الجرح والدم اللي نازل منَّي. لما سألت ماما قالت إني كنت ساكتة طول الوقت، ماعيطتش ولا خفت وكأنه شيء بيحصل لحد تاني غيرى. أثر الجرح لسة ظاهر تحت عيني لحد دلوقتي، وبتنرفز من منظر الدم قدامي !
بعدها بكام سنة، أنا بقيت واعية ومش محتاجة حد يحكيلي وفاكرة كويس اللي حصل. بلعب ورا بيتنا القديم وواقفة فوق جزع شجرة مقطوع. نطيت من فوقيه عشان أنزل على غطا مكسور لبلاعة مجاري .... أمي أنقذتني فى الوقت المناسب، لمحت خيالي فى الميّة فمدّت ايدها طلعتني، وأنا تحت بحاول لسة أستوعب هو ايه اللي بيحصل. بابا كان آخر واحد يوصل البيت بعد ما بيوت الشارع كلها اتلمت عندنا على صوت أمّي. كنا تقريبا ساعة العصرية وأمي لفاني بفوطة كبيرة بعد ما استحميت ومقعداني على حجرها. دخل من الباب هادي ومبتسم، تقريبا فاكرة إني ساعتها ضحكت !
ولسة بخاف أنزل البحر ورافضة أتعلم العوم نهائي !!
****
الدنيا مشيت لطيفة أحياناً ورديئة أحيانا، كان عندي حساسية موسمية على صدري، بتجيلي كل شتا لحد ما بقى عندي 9 سنين، وفي نفس الفترة تقريبا كنت بعاني من صداع مزمن، كان سيء لدرجة بشعة، بس كل نتايج الأشعة المقطعية وفحوصات الدكاترة أثبتت إني سليمة مفيش أي مشكلة عضوية بعاني منها !
أول مرة فقدت فيها وعيي وأنا عندي 10 سنين، كنت واقفة الصبح فى طابور المدرسة. أول مرة فقدت فيها حد قريب وأنا عندي 11 سنة، لما بابا مات، قضيت بعدها أيام كتير ساكتة بفكر إزاي دا بيحصل. أول مرة اتحركت فيها مشاعري ناحية ولد وأنا عندي 12 سنة. أول مرة لبست فيها الحجاب وأنا عندي 13 !
****
الفجوات الزمنية ليها مساحة كبيرة، عقلي أحيانا بيواجه قصور استعادة تفاصيل أوقات بعينها، مش هبالغ لو قلت انها ممسوحة من ذاكرتي مسح، ومفيش أي شيء مشترك مع الأطفال في نفس سني ممكن يربطني بيهم دلوقتي، كان ليَّ تاريخى الخاص، او ماكنش فيه حاجة بتحصل، مفيش حاجة أحكيها . إلا لو حد طلب منيّ أحكي عن أيام محلة موسي اللي بتجيني فى الأحلام لحد دلوقتي، وأحكي لما في يوم بعد العصر وكلهم نايمين وبابا عند جارنا قررت إني أهرب م البيت وأروح أستخبى عند واحدة صاحبتي فى آخر الشارع بعد ما أمي رفضت إني أخرج ألعب إلا بعد ما هما يصحوا م النوم. ساعتها بيوت الشارع كلها اتلمت تاني وأمي دورت عليَّ فى الترع والمصارف لاكون عملتها بجد. ما أنقذنيش منها غير بابا وهو واقع م الضحك بعد ما رجعتلهم و بيحاول يفهم أنا عملت كدا ليه !
****
في سنة أولي جامعة، ظهرت عندي أعراض مرضية جديدة، حساسية وحكّ جلدي بمنطقة معينة من جسمي ، الدكتور قاللي انه مفيش سبب عضوي واضح غير انه فيه مناطق معينة من الجلد بتكون ضعيفة بطبيعتها –أنا شخصيا بفسرها بقصور في نمو الخلايا – والعامل النفسي زي التوتر العصبي والوقوع تحت ضغط بيساعد على وضوح الضعف دا بترجمته إلي مرض عضوي. فهمت بعدها انه فيه مادة اسمها الهستامين هي اللي بتسبب الحساسية لما نسبتها بتزيد فى الدم نتيجة لحدوث أي اضطرابات، النسبة الزيادة دي كفيلة بإنها تأثر على الشعب الهوائية وتخليها تنكمش، لو النسبة أعلى فالحالة بتتطور إلى انسداد وصعوبة شديدة فى التنفس ممكن تأدي فى بعض الأحيان إلى الوفاة ... دا اللي كان مكتوب فى النشرة الداخلية لمضاد الهستامين.
خفيت من الحساسية بعد ما السنة خلصت وحولت لكلية تانية. وإن كانت بعد فترة طويلة رجعت تزورني تاني فى نفس المكان على فترات متباعدة وتمشي تاني لوحدها. دا ممكن يفسر السبب في النغزات اللي كانت بتجيلي فجأة بصدري ناحية الشمال، إحساس انه قلبي بيتعصر، وبينتفض من مكانه. فترة عدت عليَّ كانت النغزات شبه مستمرة ولما تيجي ممكن تقعد لمدة عشر دقايق متواصلة. لكن نفس الكلام قاله الدكتور، قلبي سليم، مفيش شبه احتمال واحد بيأكد انه عندي مشكلة عضوية. كلامه كان معايا بعيد عن الطب، سألني عن طبيعة حياتي وبقضّي يومى إزاي، وطلب من أمي تسيبني أخرج بشكل منتظم مع صحابي وأغير جو وأروح أماكن مختلفة، ومفيش مشكلة حتى لو جربت مرة وأكلت من الشارع هو نفسه بيعمل كدا !
****
الشهر دا كان أول مرة من فترة طويلة ترجعلي النغزة تاني، قعدت يوم ومشيت، وبعدها بكام أسبوع قضيت اليوم كله فى السرير بسبب صداع هو الأسوأ من نوعه من سنين، لحد دلوقتي مش قادرة أحدد سببه إذا كان مقدمة صداع نصفي أو التهاب جيوب الأنفية، أو مجرد الإحساس اللي سيطر عليّ قبلها بيوم لما حسيتني محبوسة، محشورة فى زاوية معينة ومستمرة في أخد خطوات عارفة انها ماتناسبنيش، كله لأني لسة مش عارفة البديل .... اليوم اللي بعده كنت لسة بعاني من آثار الصداع وخرجت أفطر مع ناس كتير، الدنيا كانت حرّ و دوشة ودخان السجاير كان معبّي المكان. قبل ما أمشي بربع ساعة قعدت أنا وغادة وسمية نغني سوا بصوت عالي، ولما روّحت اكتشفت اني مش حاسة بأي ألم أو وجع وإن الصداع خفّ تماما !
****
أيام بسيطة عدّت، صحيت م النوم فجأة بألم شديد فى لساني، أغرب مكان ممكن يوجعني فى جسمي !! أخدت أدوية إجرائية والألم مستمر، وهنا كان لازم ييجي دور الدكتور. ماسابش هنا أي فرصة لأي سبب تاني ورا الألم، كان ممكن تكون حاجة سخنة شربتها، بكتيريا أو فطريات. لكن قاللي بكل وضوح وثقة إني عندي قرحة بلساني وأنه سببها نفسي فى المقام الأول نتيجة الوقوع تحت ضغط ذهني ونفسي شديد. شرح لي إنه جزء من الغشاط المبطن للسان اتشال بالبلدي يعني، أو بتفسيري أنا، الخلايا اللي بالمنطقة دي قررت انها تنتحر وماتت، لأنها كانت أضعف من تحمل الضغط فمشيت وسابتني ببساطة .....
اندهشت لكلام الدكتور، وماكنتش متخيلة ان كل الأسباب هتفني ويبقالى السبب دا فى النهاية. ما فكرتش غير فى حاجة واحدة، الجزء الصغير الحي منّي اللي قرر انه يمشي وما يرجعش. غير الجزء اللي كان بلساني ممكن يبقى فيه مناطق تانية أنا معرفهاش، فى المعدة، فى المخ، فى الرئة ... أو فى القلب. وأنا بعاني دلوقتي وبتألم عشان أرمم مكانه، مكان الحفرة اللي خلقها وراه !
****
ايه هي مسببات حزني، ايه اللي ممكن يخليني حزينة أو شبه تعيسة دلوقتي مع إنه مفيش أشياء كارثية بتحصل. حياتي عادية، عادية جدا، وبالذات الأيام دي، شبه خاوية وفارغة أكتر من أي وقت تاني. ممكن الحاجات اللي بتمشي، والحاجات اللي دخولها أصعب م الأول. الصدمات الصغيرة اللي بتهز ثوابت كانت صمام أمان وبتنجّيني وأنا على شفا الوقوع. مش أنا لوحدي اللي بيحصلى كدا يعني، مش أنا لوحدي اللي بسقط سهوا من حسابات الدفا والمحبة والقرب في أوقات، وبتتخلق بيني وبين الناس مسافات في أوقات تانية، مش أنا لوحدي اللي بحاول أدور على دواير جديدة تناسبني تقلل شوية من إحساس السقيع والجمود وبلاقيني متعلقة في منطقة برزخية بين البينين وماعنديش طاقة كافية للبدء من أول وجديد. مش أنا لوحدي برضه اللي استغلت فرصة كون الدنيا بقت فاضية وساكتة حواليها فقررت تصاحب نفسها ودا يكون نتيجته انها تكتشف حقايق صغيرة عن حالها كانت موجودة طول الوقت، بس هى مكانتش عايزة تشوفها. مش أنا لوحدي اللي عندها 23 سنة ولسة بتحاول تعرف فين أول سكة اللي هتمشي فيها أول خطوة، مش أنا لوحدي اللي لسة ماتقلهاش كلمة بحبك أو حتى معجب بيكي، مش أنا لوحدي اللي بتحاول تقتنع انها لسة صغيرة أوي وإن الحياة لسة ياما هتشيل وتحط.
****
تلات حاجات مسيطرين على تفكيرى: لما كنت صغيرة أوي، وبابا كان ينام ع السرير ويتني رجليه عشان يعملهم مسند ويسند ضهرى عليهم، ويحركهم بشويش يمين وشمال عشان يخليني أنام.
رغبتي إن عايزة أفتح باب الشقة وأطلع أجري.
تفسير غادة لحلمي لما أخدتني من ايدى وشدتني معاها عشان كانت عايزة تروحني البيت، تفسيرها بإنه البيت دا مش مجرد المكان اللي بسكن فيه، دا مكاني الحقيقى، المكان الوحيد اللي ممكن أنتمي ليه بقية عمرى. وفي نفس الوقت تركيزى فى الحلم على حزني وهلعي وخوفي من الأشباح اللي بتطاردني وعايزة تقتلني وعياطي لغادة وكلامي وسط دموعي انه مش هينفع، وهى مصممة تشدني من ايدي وتروحني البيت !
***
*الاسم العلمي لمرض قرحة اللسان
** من كتاب "نساء يركضن مع الذئاب" لكلاريسكا بنكولا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق