كوب القهوة بجانبى، صوت مداعبة لمارسيل خليفة فى أذنى. رائحة البن داعبت أنفى طيلة اليوم منذ أن استيقظت. لا أدرى من أين كانت تأتى، وأنا أسير فى الشارع أيضا، تختلط مع الجو البارد الرطب، وكأنها تنساب علىّ من بين طيات الغيوم والجو الرمادى المحلق حولى.
ربما تكونت اثر احتكاك أشعة الشمس المتوارية مع كتل السحب. الاثنين معا كونا دخانا يحمل رائحتها فانتشر فى الفضاء، وغسل روحى.
أتيت الى البيت فى المساء والشوارع تنفض عن نفسها ثوب المطر، مع أنها لم تمطر اليوم، ولكن الأرض كانت طيبة والسماء قريبة
رائحة القهوة سيطرت على كل مداخلى بالكامل وأنا أحصد الغرفة جيئة وذهابا لأقرأ ما تبقى لى من الطنطورية
وكأنها تنبعث فى وجهى من بين سطور الرواية، لم أغرق بكل كيانى مع كتاب ما منذ فترة مثلما غرقت فى بحر الطنطورة
أقرؤها وأنا واقفة جالسة نائمة فى المواصلات أو فى فواصل الراحة أثناء حضورى للدروس الجديدة التى أنتظم بها حاليا
تلبستنى وشعرت لوهلة أنى ولدت مصرية على سبيل الخطأ
أحسست أنى أيضا لاجئة، ابنة المخيم التى جاءت من البيت الريفى، حملوها قسرا من على شاطىء البحر وقذفوا بها فى جحيم مدينة رائحة الهواء فيها تنذر بحرائق كارثية قادمة لا محالة
أيقنت ان وطنى يسكن أرضا أخرى عند بيت حجرى بالقرب من شجرة ليمون أو لوز. الفارق أنى أقل حظا فلا أملك حتى مفتاحا له أزين به رقبتى كما تفعل كل إمرأة ضاع لها بيتا
أرهقتنى "رقية" وبدلتنى.
استسلمت أخيرا . طويت الرواية. عدت من المطبخ أحمل كوب القهوة الدافىء وأنا أغالب النوم. اكتفيت بمتابعة الأخبار المتلاحقة على صفحات النت. قلت قريبا سأصبح مثل "رقية التى أدمنت مشاهدة نشرات الأخبار وقراءة الجرائد فيستحيل الأمر بعد ذلك إلى شراء الجرائد وإلقائها فى القمامة دون قرائتها ودون وعى لما أفعله ودون تذكر لتلك الفعلة.
اكتفيت من سؤال نفسى بقلق ماذا سوف يحدث فى الأيام القليلة القادمة.
لا أريد سوى رائحة القهوة، قلتها فى سرى، رغبة صادقة كتلك التى أصابت درويش ورغبة أكثر الحاحا بمصاحبة دخان السجائر لها
كأنى أنفس عن رئتى ضغطا زائدا وتوترا مكتوما
كوب القهوة بين يدى، ونغمات مارسيل خليفة تأتى هادئة وأنا أحاول الالتفاف حول نفسى لتدفئتها
لا أريد سوى القهوة التى ربما للمرة الأولى أجدت صنعها فى بيتنا بعدما كنت لا أستسيغ طعمها إلا على ذلك المقهى المفضل
لا أريد سواها هى والموسيقى، لا أريد سوى فعل الموسيقى
أشعر بجسدى لا يستطيع هذه الليلة القيام بأى شىء سوى أن يجلس ليتنفس الاثنين
ولكن عقلى لا يهدأ مع مطاردة شبح الكتابة له كثيرا هذه الأيام
بدأتها مع كوب القهوة الذى كان بجانبى ومداعبة مارسيل لأذنى
وأعاود النظر إلى الطنطورية، مترددة فى استكمالها الليلة أم إرجاء ما تبقى إلى الغد
ابتسمت لها. رغم قسوة واقعها، الطنطورة سيدة ناضجة دافئة وقريبة، تنبعث منها رائحة الخبز الطازج القادم لتوه من الفرن البلدى فى الساحة الخلفية لبيتنا القديم. اختلط علىّ الأمران وتذكرت ابتسامة أبى فى أوقاته الرائقة.
الطنطورة مع غلافها الأزرق لا يمكن قرائتها إلا شتاءا فى صحبة القهوة
وشتاء هذا العام مختلف، يحمل هو أيضا رائحة غريبة وغير معتادة، على يقين أنه مازال يخبىء فى جعبته الكثير
سأندهش كثيرا الأيام القادمة، سأكبر كثيرا فى وقت قياسى، أشعر من الآن بشىء ما بداخلى يطول ويمتد، بساحة أحضرت مكنسة من سعف النخيل كتلك أيضا المعتادة بين النساء الريفيات، ساحة تتمدد داخلى أهذبها وأنظفها وأتركها خالية وربما تمتلىء غدا بأشجار كثيفة وجذور ضاربة فى العمق.
لن يمر هذا الشتاء دون أن يترك بصمته على الجميع، دون أن يقتلع جذورا اخرى ويغير مصائر، اليقين يأكلنى.
حسمت أمرى، سأكتفى بالكتابة ما تبقى من ساعات هذه الليلة، وأنام مبكرا
ما زال فى الشتاء أيضا متسعا للانتهاء من الطنطورية، وداع " رقية " سيكون صعبا. ربما لا أريد فراقها
سأتحصن بها، بدفء القهوة، وبالموسيقى الحنونة التى تربت على كتفى
سنواجه معا ما يحمله لنا شتاؤنا هذا من مصير جماعى، وما قد تحمله رياحه لى من لقاءات شخصية مؤجلة أو غير متوقعة
ولكنى أحلم بها دائما فأظن أنى أشم رائحة القهوة، وأشعر برغبة مفاجئة فى الاستماع لمارسيل
ترمى بى على الشاطىء موجة حنين مندفعة وقوية
ابتسامة حزينة، أخبئها على عجل بين صفحات الطنطورة حيث أجد بعضا من نفسى ولا أدرى كيف
فأتركها لأصنع القهوة وأستعيد ذكرياتى التى تكونت قبل أن تحدث
ذكريات لأم فقدت ولدها منذ أعمار ضعف عمرها، وقد تجده ثانية فى شتاء ما
قد تحمل لها رياحه رائحته ذات شتاء