ذلك اليوم من ذلك الشهر فى ذلك العام
"أين ذهبَت؟ ...كتبت عنكِ ورقة كهذه ولكنى لا أجدها الآن، بحثت عنها بين أكوام الورق وليس لها أثر...المفترض أن تكون فى ترتيبها الصحيح، كل الأوراق مرتبة ما عدا هى...تلاشت....يجب أن تقرئيها..."
مسحت بعينيها الحجرة المغمورة بلون الشمس المائلة للغروب، توقفت قليلاً عند فراشه الصغير الموضوع بشكل عرضىّ أسفل النافذة المفتوحة بستائرها الشفافة...حدثت نفسها أن ثمة شيئاً ناقصاً فى هذا المكان، وأكملت عينيها تأمل بقية التفاصيل، مروراً بالمصابيح المطفأة و مكتبته ومكتبه، أقلامه وعلبة سجائره، أقراص الحبوب المنومة و أفكاره المبعثرة وعقله المتدحرج هنا وهناك، إلى أن انتهت به قابعاً فى ذلك الركن بين المكتب والفراش...يوليها ظهره ويعكف على تفتيش الأوراق بين يديه.....
نسيت اخباره يوماً ما أنها تكره تلك الإنحناءة فى الظهر، كانت تشعرها دائماً أنه شيخ عجوز فقد أحفاده وضاع منه تاريخه، لم يعد يتذكر أسماء أبنائه أو حبيبته، وجثم النسيان على ظهره كحمل ثقيل....
أصوات اصطدام حواف الأوراق الصفراء ببعضها، أصوات همهماته اللاعنة تأتيها وهى جالسة على تلك المنضدة الصغيرة فى منتصف الحجرة، تعجبت من أن يكون لها كرسى واحد فقط.." مال كل الأشياء هنا مُفردة وصغيرة هكذا؟..هذا الرجل سيصيبنى بلوثة عقل عما قريب"
مازال يبحث...ظنت أنه لم يعد يرى أمامه سوى الورقة المختفية، تمللت فى جلستها وأسندت مرفقها إلى المنضدة واضعة كف يدها أسفل وجنتها وهى تخبره بلهجة ناعسة:" لا تهتم، فلن تجدها على أية حال"
"لماذا؟...لماذا؟؟؟" ..... وقف بعد أن تملكه اليأس، وكالأطفال ركل بحركة عصبية من قدمه الأوراق المتناثرة أمامه على الأرض....."أريد العثور عليها، أجهل الآن ما كتبته بها ذلك اليوم، أريد أن أتذكره، أريد أن أتذكرك..أريدِك أن تعرفى كم كنت ومازلت أ......"
استدار إليها مع جملته الأخيرة وقطعها وهى يراها تتطلع إليه بوجه خالٍ من أى انفعال أو تعبير....." أريد أن أراكِ" ، قالها متماسكاً بعد أن خنقت صوته الدموع، أصابه اعياء خفيف فأسقط نفسه وتكوم على الأرض أمامها معطيها ظهره ووجهه إلى الفراش والنافذة المفتوحة، غمغم وهو يكرر: "أريد أن أراكِ"
تابعته بهدوء حتى انتهى من مشهده التراجيدى ثم قامت متمهلة لتجلس بجانبه و رفعت رأسه لتضعه فى حجرها، مرت بيدها علي شعره وهى تسأله: " لما تصر على البحث عمّا فقدته فى تلك الورقة وأنا هنا بكامل تفاصيلى معك؟ "
" خفت أن أنساكِ"
ابتسمت فى اشفاق وهى ما زالت تمسح بيدها على رأسه: " ولكنك نسيتنى بالفعل"
نهض وسألها مستنكراً :" كيف هذا إذن؟"
أجابت فى عناد: " عندما كتبت عنى نسيتنى، تخلصت مما يربطك بى من داخلك، حوّلته إلى حبر تلاشى فى ورقة أخذت دورها فى أرشيف حياتك، أغلقت عليه ومضيت، أصبحت هى الآن والفناء سواء.."
أكملت بعد لحظة صمت وقد هدأت حدة صوتها: " أردت الشفاء منّى"
ثم مدت يديها لتضع اليمنى على صدره وتلامس بأصابع اليسرى جانب جبهته هامسة: "بينما ما يستقر هنا وهنا لن يضيع أبداً"
قال فى تردد: " أنا خائف"
" أعلم"
" أشعر بالبرودة"
" أعلم"
" ربما أكون جبانأ أيضا وقليل الحيلة...أعتقد أنى من يحتاج المساعدة وليس شخصاً آخر"
لم تجب مباشرة هذه المرة، نظرت فى عينيه بابتسامة حانية وسحابة من دمع تطفو أمام عينيها، وضعت وجهه بين يديها وقربته إلى وجهها، قالت فى هدوء :" ربما عليك أن تتذكر فقط.. أن تنظر لعينى وتذكر الآن ما أردت قوله يوماً دون أن تحاول البحث عن الورقة مرة أخرى"
تأمل تفاصيل وجهها المُسلّط عليه ضوء الشمس، تمنى لو يذوب مع ذلك النور والدفء وينسى كل شىء بالفعل، وكأنما أراد التأكد من ادراكه سألها: "أنتِ معى؟؟"
أومأت برأسها ايجاباً
أزاح يديها فى رفق ورقد داخلها، تكوم فى حجرها وشعر أنه يتسع لكل جسده ويفيض..."هذا ما يهمنى معرفته الآن، ولم يعد يعنينى ما نسيته.." قالها وهو يتمتم فى خفوت ، بينما عينيه تغالب النعاس المتسلل إليها والظلال المتحركة لستائر النافذة ترتسم على وجهه وتداعبه...
ربتت عليه وهى تهدهده بحركة جسدها يميناً ويساراً...
أزاحت كتلة هواء الستائر وطارت أوراقه وكلماته حولهما، وقفزت احداها من النافذة
ازدادت الحجرة اصطباغاً بلون الغروب..
شعرت برأسه ثقيل..
ثم حلّ صمتٌ وسكون