باردة كالثلج تلك الليلة رغم قطرات العرق اللامعة على جبهته العالية..لم يحضر معه جهازه الموسيقى الصغير كعادته ولكنه بحاجة ماسّة إلى ذاك اللحن الآن..عندما تذكره افتقدها..يريدها ..يريد أن يجلس بجانبها صامتاً ..يرغب أن تعى انفجاره دون أن يتحدث..فيصرخ دون أن يعبأ.. يريدها بعنف.. لا يدرى لِمَ اختارها هى بالتحديد و لم يمنح نفسه الوقت للتفكير .. كل ما يعيه أنها هى من سيسقط على أكتافها كل معاناته ويتجرد من كل شوائبه أمامها..وما عليها إلا الإبتسام بسماحة والاستماع إليه حتى يغمض عينيه فى سبات عميق كالأطفال الأشقياء من كثرة التعب
يتدثر كفيّه العاريين فى جيبىّ بنطاله..تسرع خطواته الليلية المتأرجحة..أعلم أنه يغير وجهته ويذهب سيراً حيث تعود أن يجدهم ..فبعد أن أصابت الشيخوخة جدران البيت وماتت نباتات الظل أبَت الأشباح إلا أن تضفى بعض اللمسات الملونة على ديكور المنزل ودعته كل ليلة ليشاهد معها برنامجها المسائى..
أعلم أنها على الناحية الأخرى من الحياة تتقلب فى فراشها دون غطاء تستمع بغير توقف إلى صدى ذات اللحن وتشعره يَسْرى فى جسدها فيصيبها مسأً من خدر وتشم رائحة عرقه فتستلقى أخيراً على ظهرها وتزيح بتوتر مرتعش خصلات الشعر الملتصقة بوجهها .. تمرر يدها على رقبتها فتسمع نبضا خافتا على استحياء..تهاجمها برودة مفاجئة فتنقلب على بطنها عاصرة الوسادة أسفل منها...فيشعر هو بيد زرقاء تعتصر قلبه حين يطفىء جميع الأنوار ويغلق خلفه الباب عائدأً إلى الضفة الأخرى ..إلى جدران أخرى تصيبها الشروخ وينهمر منها مطر الشتاء
فى الصباح يجدها أمامه دونما اتفاق مسبق..ما عليه إلا الإبتسام خفية والصمت حين يرغب فى قول كم افتقدها دون أن يدرى.. وتدرى هى مقدار خوفها عليه..فتصمت هى الأخرى إزاء ما يمنحها وجوده من سكينة..يسيران تحت الشمس كتفاً بكتف وتتجنب النظرات التقاطع فى نقطة التقاء فبداخل كل منهما ما يكفى ويفيض..يخشى على عودها الهش من الإنقسام بين متاهاته وتشفق عليه منها وتشفق على نفسها من رغبته فى اقصائها عن الطريق...يتحدث وتنصت وتتحدث وأنا أستمع إلى ما يُقال بين ثنايا الحديث
أعلم أنه يخبرها الآن عن خوفه وارتعاش برودته وظمأه ويُتم نظراته التائهة بين البشر..أعلم أنها تخبره كيف أن فاقد الشىء هو الأكثر قدرة أن يعطيه..أراه يهز رأسه يميناً ويساراً ببطء ليتخلص من فكرة عابرة لا يبغى دخولها حيز التنفيذ وفى ذات اللحظة تتردد هى فى احتضان يده وتكره عجزها عن جذب رأسه إلى صدرها الصغير لتحكى له عن بياض الثلج والأقزام السبعة
يسألها عمّا بها فلا تجيب..يتركها تمضى ويعود إلى أشباحه وتلتجىء إلى فراشها المُجهد..أعلم رغبته فى القبض على ذراعها كى لا ترحل فيترجمها باختفائه سريعاً كى لا يضعف ..أعلم شوقها كل ليلة أن تستيقظ فتجد نفسها ناعسة بين ذراعيه ورأسها على كتفه وشعرها يفترش صدره ولكنها تتركه يتلاشى كى لا تتهور
يذهب إلى منزله ويسأل نفسه فى عتمة المساء متى سيكون له بيت... تذهب هى ولا تعرف متى تستطيع أن تصبح بيتاً له وكيف ستتمكن من بناء السقف إن رفض هو سند جدرانه..
كانت تسأل نفسها دوماً: مالذى يفعله حين يكون بمفرده؟...أعلم أنها ستكتشف ادراكها لوحدته الدائمة وأن أفضل ساعات ونسه حينما يصبح وحيداً....و أن ثمة طريقاً آخر يدعوها لعزف منفرد